إنَّ الله تعالى ذكر قصص أنبيائه ورسله، لنأخذ منها العبرة والعظة، ونستخلص منها الذِّكرى والموعظة، فقال سبحانه: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون﴾[يوسف:111]، وإنَّ من أبرز هذه القصص، قصَّة إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السَّلام.
وذلك أنَّ إبراهيم ـ عليه السَّلام ـ دعا قومه إلى توحيد الله تعالى وترك عبادة الأصنام، فلمَّا لم يستجيبوا له، أراد أن يقيمَ عليهم الحجُّةَ، ويبيِّنَ لهُم أنَّ هذه الأصنامَ لا تنفع ولا تضرُّ، بل هي عاجزة عن نفع نفسها ودفع الضَّررِ عنها، فكيف تنفع من يعبدها؟! فجعلها حطامًا.
فلمَّا أقام عليهم الحجُّةَ همُّوا بإحراقه بالنَّار، فأنجاه الله تعالى منها، وأظهره عليهم، فلمَّا نصره الله تعالى على قومه، وأيس من إيمانِهم، تركهم وهاجر مِن بَيْنِ أظهرهم، فسأل ربَّه أن يَهَبَه ولدًا صالحًا، عوضًا عن قومه، ويؤنسه في غربته، ويعينُه على طاعة ربِّه والدَّعوةِ إلى دينِه، فاستجابَ اللهُ دعاءَه فَرَزَقَهُ ولدًا صالحًا، فأحبَّه وقرَّت عينُه، وتعلَّق قلبُه به، ثمَّ أمره الله تعالى بذَبحِه بيده، وهنا تتجلَّى الحكمةُ من القصَّة، وذلك أنَّ أَصْلَ التَّوحيدِ بل لبّه وروحه هو محبّةُ اللهِ تعالى، ولهذا كان رأسَ الإيمان الحبُّ في الله والبغضُ في الله، وكان من أحبَّ لله وأبغضَ لله، وأعطى لله ومنع لله فقدِ اسْتكمَلَ الإيمانَ, وأصلُ المحبَّة الَّتي أمرَ اللهُ بها وخلَق خلقَه لأَجْلِهَا، إذ العبادةُ متَضَمِّنَةٌ لغايةِ الحُبِّ وغاية الذُلِّ, فهذه المحبَّةُ يجِب أنْ تكونَ خالصةً للهِ وحدَه، لا تشوبُها شائبَةٌ، ولا يزاحِمُها مُزاحِم.
فابتَلَى الله تعالى إبراهيمَ في محبَّتِه له سبحانه، وإيثارِها وتقدِيمِها على محبَّةِ ابنِهِ، فأمره بذَبْحِه في محبَّة الله تعالى، حتَّى يكونَ اللهُ أحبَّ إليه من ابنِه، ويبلغَ كمالَ المحبَّةِ ومرتبةَ الخَلّة، فلمَّا حصَلَ المطْلُوبُ فَداهُ الله بذِبْحٍ عظيمٍ.
قال الإمام ابن القيِّم رحمه الله في «جلاء الأفهام» (ص274):
«ولما اتَّخذه ربُّه خليلاً؛ والخُلّة هي كمال المحبَّة، وهي مرتبة لا تَقبَلُ المشاركةَ والمزاحمةَ، وكان قد سأل ربَّه أن يهَبَ له ولدًا صالحًا، فوهَب له إِسماعيلَ، فأخذ هذا الولدُ شعبةً من قلْبه، فغار الخليلُ على قلب خليلِه أن يكونَ فيه مكانٌ لغيرِه، فامتحَنَه بذَبْحِه ليظهرَ سرُّ الخُلّة في تقدِيمه محبّةَ خليلِه على محبَّةِ ولدِه، فلمَّا استسلم لأمر ربّه، وعزم على فعله، وظهر سلطان الخُلَّة في الإقدام على ذبح الولد إيثارًا لمحبَّة خليله على محبّته، نسخ الله ذلك عنه، وفداه بالذِّبح العظيم؛ لأنَّ المصلحة في الذَّبح كانت ناشئةً من العزم وتوطين النَّفس على ما أمر به، فلمَّا حصلت هذه المصلحة، عاد الذَّبح مفسدة، فنُسخ في حقِّه، فصارت الذَّبائح والقرابين من الهدايا والضَّحايا سُنَّة في اتّباعه إلى يوم القيامة».
* قال الله تعالى:
﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِين * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِين * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيم * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء الله مِنَ الصَّابِرِين * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِين * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيم * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِين * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِين * سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيم * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِين * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِين * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِين﴾[الصافات:99-113].
***
فقد تضمَّنت هذه الآيات درر الفوائد وغرر الفرائد، فاقتنصت هذه الشَّوارد، من تضاعيف كتب الأماجد، لبلوغ مرام المقاصد، فجمعت أنواع الموائد، ـ فوائد عقديَّة، أصوليَّة، فقهيَّة، علميَّة، تربويَّة ـ بصريح العبارة، أو بدلالة الإشارة ـ وهي من ألطف الدّلالات ـ، مع الاعتراف بالتَّقصير، والله المستعان، وعليه التّكلان.
* الفائدة الأولى: فيه وجوب الهجرة من دار الشِّرك والكفر إلى دار التَّوحيد والإيمان، ومن دار المعصية إلى دار الطَّاعة.
فقد هاجر إبراهيم من بلد قومه إلى حيث يتمكَّن من عبادة ربِّه, وقال كما في آية أخرى: ﴿إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي﴾[العنكبوت:26]، ويلحق بهذا الهجرة من دار البدعة إلى دار السُّنة، قال ابن القاسم: سمعت مالكًا يقول: لا يحلُّ لأحد أن يقيم ببلد سُبَّ فيها السَّلف([1).
* الفائدة الثَّانية: وفيه دليل على مشروعيَّة الهجرة والفرار من المكان الَّذي يكثر فيه الأعداء، ويخشى فيها الإذاية في الدِّين أو البدن، وذلك أنَّ إبراهيم ـ عليه السَّلام ـ لـمَّا أحسَّ العداوة الشَّديدة من قومه حيث أضرموا النَّار وألقَوْه فيها، فلمَّا نجَّاه الله تعالى منها هاجر، وقد قال تعالى عن نبيِّه موسى عليه السَّلام: ﴿فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ﴾[الشعراء:21]، وقال أيضا: ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين﴾[القصص:21]، ولهذا أمر النَّبيُّ ﷺ بالهجرة من مكَّة لـمَّا اشتدَّت إذاية المشركين له.
* الفائدة الثَّالثة: وفيه أنَّ المهاجِر ينبغي أن تكونَ هجرته لله، ويكونَ عملُه له وحده، لقوله تعالى: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي﴾[الصافات:99]، ويشهد لهذا قوله ﷺ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَانَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَاهَاجَرَ إِلَيْهِ» متَّفق عليه.
* الفائدة الرابعة: في قوله تعالى: ﴿رَبِّي سَيَهْدِين﴾[الصافات:99] إشارة إلى أقسام التَّوحيد الثَّلاثة: فقوله: ﴿رَبِّي﴾، تضمَّن توحيد الرُّبوبية وتوحيد الأسماء والصِّفات، حيث أقرَّ بربوبيَّة الله تعالى عليه، مستعملاً اسمًا من أسمائه تعالى، وهو «الرَّبُّ»؛ وقوله: ﴿سَيَهْدِين﴾ تضمَّن توحيد الإلهيَّة، حيث دعا اللهَ تعالى أن يهديَه، والدُّعاء هو العبادة.
* الفائدة الخامسة: وفيه سؤال الله تعالى بأسمائه بحسب ما يقتضيه المقام، ولهذا لم يقل إبراهيم: إنِّي ذاهب إلى الله، بل قال: ﴿إِلَى رَبِّي﴾، ولم يقل: اللهمَّ هب لي، بل قال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِين﴾؛ لأنَّه في موضع يفتقر فيه إلى الرُّبوبيَّة، إذ الرَّبُّ هو القائم على هدايته، المدبِّر لأمره، ولهذا لا يقول الدَّاعي: اللَّهمَّ ارزقني يا قابض، ولا: اللَّهمَّ اغفرلي وارحمني يا عزيز يا جبَّار، بل يقول: اللهم ارزقني يا رزاق، واللهم اغفرلي وارحمني يا غفور يا رحيم ونحو ذلك.
* الفائدة السادسة: وفيه التَّودُّد إلى الله تعالى والافتقار إليه وإظهار احتياجه إليه، وسؤاله الهداية والتَّوفيق، فحاجته إلى ذلك فوق حاجته إلى طعامه وشرابه بل الهواء الذي يتنفَّسه؛ لأنَّ ذلك يتضمَّن حصولَ كلِّ خير والسَّلامة من كلِّ شرٍّ، ولهذا أمرنا تعالى أن نسأَله إيَّاها في كلِّ ركعة من صلاتنا عند قراءة الفاتحة: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين * اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم﴾[الفاتحة:5-6].
* الفائدة السابعة: وفيه إخلاص الدُّعاء لله تعالى، لقوله: ﴿رَبِّ هَبْ لِي﴾.
* الفائدة الثامنة: وفيه استحباب طلب الولد الصَّالح، لأنَّ نعمة الولد تكون في صلاحه، فإنَّ صلاح الأبناء قُرَّةُ عينٍ للآباء.
* الفائدة التاسعة: وفيه تفضيل الذُّكور على البنات، لقوله: ﴿هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِين﴾، ثمَّ قال: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيم﴾، وهذه البشارة تدلُّ على أنَّه مبشَّر بابنٍ ذكرٍ، وقد قال تعالى: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى﴾[آل عمران:36].
* الفائدة العاشرة: وفيه الحثُّ على الزَّواج، لأنَّه الوسيلة الوحيدة في جلب الأولاد.
* الفائدة الحادية عشر: وفيه الحثُّ على مصاحبة الصَّالحين والاستعانة بهم في أمور الدِّين والدُّنيا وهو أفضل من الاعتزال، لقوله: ﴿هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِين﴾.
* الفائدة الثَّانية عشر: وفيه إجابة الله تعالى لدعاء إبراهيم حيث قال عقيب سؤاله الولد: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيم﴾.
* الفائدة الثالثة عشر: وفيه استحباب بشارة من ولد له مولود وإعلامه بما يسرُّه.
* الفائدة الرابعة عشر: وفيه أنَّ الأولاد نعمة من الله تعالى، وقد وصفهم سبحانه بالبشرى، فقال: ﴿وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى﴾[هود:69].
* الفائدة الخامسة عشر: وفيه منقبة لإسماعيلَ عليه السلام، حيث وصفه الله تعالى بأنّه حليم، كما وصفَ بذلك أباه إبراهيم عليه السلام حيث قال: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيم﴾[التوبة:114].
* الفائدة السادسة عشر: وفيه من أعلام نبوَّة إبراهيم عليه السلام، حيث بُشِّر بالولد ووصف بأنَّه غلام حليم، فتضمَّنت هذه البشارة بقاءه حتى يكبر ويصير حليمًا؛ لأنَّ الصَّغير لا يوصف بالحلم.
* الفائدة السَّابعة عشر: وفيه أنَّه ينبغي على المرء أن يوطِّئ بين يدي المسائل الشَّديدة، ما يكون مؤذنًا بها حتَّى يستأنس بها، لقوله تعالى: ﴿بِغُلاَمٍ حَلِيم﴾، فوطَّأ سبحانه بين يدي الأمر بذبحه، فوصف الغلامَ أنّه حليم، إشارة إلى حصول البلاء، أي أنّه سيبتلى فيحلم.
* الفائدة الثَّامنة عشر: وفيه جواز تسمية المخلوق ببعض أسماء الخالق، لقوله: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيم﴾، وقوله: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم﴾، ومن أسمائه سبحانه «الحليم» و«العظيم»، قال تعالى: ﴿وَالله غَنِيٌّ حَلِيم﴾[البقرة:263]، وقال سبحانه: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم﴾[البقرة:255]؛ ومثله: أنّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ سمَّى نفسه العليم كما في قوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم﴾[الأنعام:13]، ووصف بعض عباده بأنه عليم كما في قوله تعالى: ﴿وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيم﴾[الذاريات:28]، ووصف نفسه بأنَّه رؤوف رحيم، قال: ﴿إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم﴾[النحل:7]، ووصف نبيَّنا ﷺ بذلك فقال: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم﴾[التوبة:128]، ونحو ذلك كثير، ومعلوم أنَّ الاسم في حقِّ الخالق يقصد به إطلاق الوصف، أمَّا في حقِّ المخلوق فهو على سبيل التَّقييد وما يناسب وصفه، فالاشتراك في الأسماء لا يستلزم التَّشبيه، فليس المسمَّى كالمسمَّى، فليس الحليم كالحليم، وليس العظيم كالعظيم، وليس العليم كالعليم وهكذا في سائر الأسماء، والحاصل أنَّ من أسمائه تعالى ما يسمَّى به غيرُه، ومنها مالا يسمَّى به غيره كاسم «الله» و«الرَّحمن» و«الخالق» و«الرَّازق» ونحو ذلك.
* الفائدة التَّاسعة عشر: وفيه فضل الحلم؛ لأنَّ الله تعالى أثنى على إسماعيل، حيث وصفه به، وجعل ذلك بشارة لإبراهيم عليهما السَّلام.
* الفائدة العشرون: فيه بلاغة الإيجاز، لقوله: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾ لأنَّ الكلام فيه حذف، تقديره: فوهبنا له الغلام، فنشأ حتَّى بلغ مبلغ الَّذي يسعى فيه مع أبيه في أمور دنياه.
* الفائدة الواحدة والعشرون: فيه استحباب مصاحبة الولد للوالد في السَّعي والعمل.
* الفائدة الثَّانية والعشرون: وفيه من أدب إبراهيم مع ابنه إسماعيل، حيث خاطبه بالبنوَّة إضافة إلى نفسه ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ﴾ على سبيل التعطّف والشَّفقة والحنان والترحُّم؛ وفيه أدب إسماعيل مع أبيه إبراهيم، حيث ناداه بوصف الأبوَّة إضافة الأب إلى ياء المتكلِّم المعوَّض عنها التَّاء ﴿يَا أَبَتِ﴾، على سبيل التَّوقير والتَّرقيق، ويتضمّن هذا الحثَّ على تأدُّب الأباء مع الأبناء بمناداتهم بالبنوَّة، وتأدّب الأبناء مع الآباء بمناداتهم بالأبوة.
* الفائدة الثَّالثة والعشرون: وفيه جواز مناداة القريب على سبيل التَّلطُّف والتَّوقير، لقوله: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ﴾، وقوله: ﴿يَا أَبَتِ﴾.
* الفائدة الرَّابعة والعشرون: وفيه دليل على أنّ رؤيا الأنبياء وحي معصوم، قال عبيد ابن عمير: «رؤيا الأنبياء وحي» ثم قرأ: ﴿إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾» رواه البخاري (138), وقد كان أول ما بدئ به رسول ﷺ الرُّؤيا الصَّادقة في النَّوم فكان لا يرى رؤيا إلاَّ جاءت مثل فلق الصُّبح.
* الفائدة الخامسة والعشرون: وفيه دليل على صحَّة التَّكليف بالمشاقِّ، ولا شكَّ أنّ الأمر بذبح فِلْذَةِ الكبِدِ من أشدِّ أنواع المشاقِّ، لكنَّه في وسع الإنسان.
* الفائدة السَّادسة والعشرون: وفيه استحباب مشورة الأبناء من ذوي الرَّأي في الأمور المهمَّة والنَّوازل المدلهمَّة.
* الفائدة السَّابعة والعشرون: وفيه دليل على أنَّ لصيغة الأمر معاني أخرى غير الوجوب، منها: المشورة لقوله تعالى: ﴿فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾، إشارة إلى مشاورته في هذا الأمر، وهو قوله: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾.
* الفائدة الثَّامنة والعشرون: وفيه دلالة على أنَّ صيغة الأمر للوجوب، لقوله: ﴿افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ وهو أمر، وقول إبراهيم: ﴿إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾، وإن كانت صيغته صيغة الخبر، فإنَّ معناها الأمر ضرورة؛ ولهذا أقبلا على الفعل، وانقادا لأمر الله تعالى فقال سبحانه: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِين﴾.
* الفائدة التَّاسعة والعشرون: وفيه دلالة على أنَّ الأمر للفور، ولهذا بادر إبراهيم وإسماعيل إلى امتثال أمر الله تعالى، فلم يقصِّرا في البدار، ولم يتراخيا في الامتثال.
* الفائدة الثَّلاثون: وفيه أنَّ الأمر بالأمر بالشَّيء أمرٌ به، وذلك أنّ الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ابنه، وأمره أن يأمرَ ابنَه بالطَّاعة والامتثال، فتعلَّق الخطابُ بأمرين: أمر لإبراهيم بالتَّنفيذ، وأمر لإسماعيل بالطَّاعة، ويدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا﴾، أي استسلما وانقادا؛ إبراهيم امتثل أمْرَ الله، وإسماعيل طاعة الله وأبيه، وأما قول إبراهيم: ﴿فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾، فإنَّما شاوره ليختبرَ ما عنده من الصَّبر والعزم على طاعة الله تعالى، وليأنس بالذَّبح وينقاد للأمر به، والله أعلم.
* الفائدة الواحدة والثَّلاثون: وفيه عظم مقام إسماعيل عليه السَّلام، وذلك أنَّ إبراهيم عليه السَّلام لـمَّا شاوره في الأمر ليختبرَ ما عنده من العزم على طاعة الله، والصَّبر على أمره، وتهيئته لتنفيذ ما أمر به، بادر إلى الإذعان والامتثال دون اضطراب ولا تردُّد، قائلا: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء الله مِنَ الصَّابِرِين﴾.
* الفائدة الثَّانية والثَّلاثون: وفيه تعليق الأمور بمشيئة الله، وتقديمها في كلِّ قول.
* الفائدة الثَّالثة والثَّلاثون: وفيه إثبات المشيئة لله تعالى.
* الفائدة الرَّابعة والثَّلاثون: وفيه الحثُّ على اللُّجوء إلى الله تعالى والاستعانةِ به في الأمور الصَّعبة وسؤالِه الثَّباتَ وإفراغَ الصَّبرِ.
* الفائدة الخامسة والثَّلاثون: وفيه من تواضع إسماعيل عليه السلام، حيث قال: ﴿سَتَجِدُنِي إِن شَاء الله مِنَ الصَّابِرِين﴾، ولم يقل: صابرًا، وقد صدق فيما وعد، ولهذا قال الله تعالى في آية أخرى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا﴾[مريم:54].
يتبع…
(1) «أحكام القرآن» لابن العربي (1/ 484).
* منقول من مجلة الإصلاح «العدد 20»
Commenti