التحريرات على الشاطبية([1])
من معاني (التحرير) في اللغة: التقويم. ومنه تحريرُ الكتابِ وغَيْرِه.
وأما في الاصطلاح؛ فله عدة تعريفات([2])، منها: أنه العناية بتنقيح القراءة من أي خطإ أو خلل -كالتلفيق([3])، والوهم، ونحو ذلك-.
ومنها: أنه الاجتهاد بالبحث والتحري لوضع تقييداتٍ لما أطلقه صاحبُ كتابٍ ما مِن أوجُهٍ للقراء، وذلك وَفْقًا للطرق التي أَسْنَدَ منها القراءات. وبعضُ أصحاب هذا التعريف يختصرونه في كلمتين؛ فيقولون: هو التقييد بالتدقيق.
ومنها: أنه التدقيق في القراءات، وتقويمها، وتمييز كل رواية على حدة، من طرقها الصحيحة، وعدم خلط رواية بأخرى.
ومن فوائد علم التحريرات:
1- الاستعانة بها في معرفة وضبط العزو إلى الطرق والكتب، والاستفادة منها في معرفة الأحكام الواردة في الكتب.
2- الوقايةُ من الوقوع في التركيبِ والتلفيقِ في القراءة.
3- التنبيه على الأوجه الضعيفة، وبيان سبب ضعفها؛ ليتجنب القارئ القراءة بها.
4- النص على القراءات الممنوعة بسبب التركيب نتيجة لجمع القراءات في ختمة واحدة.
5- بيان الخطإ والسهو والوهم الذي قد يقع في كتب القراءات.
6- ومن فوائدها بالنسبة للمتون: تفصيلُ أُجمِلَ، وتقييدُ ما أُطلِق، وتوضيحُ ما أَشْكَلَ.
وقد أَدْخَلَ بعضُ المتأخرين في تعريفِ التحريراتِ – الاستدراكَ على صاحب الكتاب، أي: إلزامه بأوجُه موجودة في أصولِ كتابِه ولكنه تركها ولم يضمنها كتابَه([4]). ولكن هذا يخالف ما هو متقرر عند القراء من جواز اقتصار القارئ على بعضِ ما رواه اختيارا منه. ولذا لا تعتبر هذه تحريرات، بل إضافات عليها لا تلزمه إلا اختيارا منه([5]).
فينبغي أن نمييز بين ما هو من باب التوضيح وبين ما هو من باب الاستدراك، وأن يُتعامَل مع كل منهما بما يليق. فالتوضيح ينسب إلى مؤلف الكتاب([6])، والاستدراك ينسب إلى مَن استدركه، لا إلى مؤلف الكتاب([7]).
والواقع أنه حصل عند كثير من المتأخرين خَلْطٌ وعدمُ تفريق بين ما هو من الاستدراك وبين ما هو من التوضيح، فحصل بسبب ذلك أخطاء علمية كثيرة وكبيرة.
تحريرات «الشاطبية» عبر القرون
قبل أن نتكلم على تحريرات «الشاطبية» نحتاج إلى أن نَذْكُرَ منهجَ الشاطبي في تأليفها؛ حتى يكون لدينا تصَوُّرٌ لحقيقة الأمر قبل معرفةِ ما يترتب عليه.
إنّ المقصدَ الرئيسَ للإمام الشاطبي من تأليف «الشاطبية» هو اختصارُ كتابِ: «التيسير في القراءات السبع» للإمام أبي عمرو الداني، قال في مقدمتها:وفي يُسْـرِها التيسيرُ رمت اختصـارَه فأجْنَتْ بعون الله منه مؤمَّلا
إلا إن «الشاطبية» ليست اختصارًا مَحْضًا لـ«التيسير»، ولم يَلْتَزِمْ ويَتَقَيَّدْ فيها بما حواه «التيسير» من المرويات والأوجُهِ بحيث لا يخرج عنه في شيء، بل زاد عليه أشياءَ مِن اختياراته، وأغْفَلَ منه أشياء، ورَتَّبَ أوجُهَ الخلاف، وضعَّفَ بعضَها، وصحح أخرى، وكلُّ ذلك زيادة منه وتمحيصا للروايات. وكُلُّ مَنْ يتأمل كلام الشاطبي أو يقارن بين «الشاطبية» و«التيسير» يَظهَر له ذلك جَلِيًّا.
وليس هذا مَعِيبًا على الشاطبي، ولا تثريب عليه فيه. فأما ما أغفلَ ذِكْرَه من «التيسير» فوَجْهُه ما ذكرناه آنفًا مِن أن القارئ لا يلْزَمُه الأخذُ بكل ما جاء من طريقه؛ إذ له الاقتصار على بعضه اختيارا وقصدا، وليس لنا أن نلزمه بالأخذ بما تَرَك.
وأما ما زاده على ما في «التيسير» فقد نَصّ عليه في مقدمة منظومته؛ حتى لا يَعيبَ عليه أحد؛ فقال بعد كلامه السابق:والفَـافُهــا زادت بِنَشْـرِ فـوائــدٍ فَـلَفَّتْ حيـاءً وَجْهَها أن تُفَضَّلا
قال أبو شامة: «…فتلك الألفافُ نَشَرَتْ فوائدَ زيادةً على ما في كتاب: «التيسير»؛ مِن زيادةِ وجوهٍ، أو إشارةٍ إلى تعليلٍ، وزيادةِ أحكامٍ، وغير ذلك مما يذكره في مواضعه…» اهـ.
وقال السمين الحلبي: «أي زادت أبياتُها -مع اختصارها- على «التيسير» ببسطِ فوائدَ لم تكن فيه، فمنها باب كامل أودعه إياها -وهو باب مخارج الحروف وصفاتها-، ومنها الثناء على قراءة، ومنها التعليل لوجوه القراءة، وما تضمنته من اللغة وصياغة الأدب وزيادة وجوه في القراءات» اهـ.
وقد صَنَّفَ بعضُ الدارسين هذه الزيادات إلى ثلاثة أصناف:
1- زيادات في الأبواب.
2- زيادات في أصول القراء.
3- زيادات في فرش الحروف.
وقد اصطُلح على تسميةِ ما زاده الشاطبي على «التيسير» بـ(زيادات القصيد)([8]).
فإن سألَ سائل: ما مَصْدَرُ هذه الزيادات؟
فالجواب: أنّ هذه الزيادات منها ما هو مِن طريقِ الداني ولكن في غيرِ «التيسير» -وهو الأكثر-، ومنها ما هو من غير طريق الداني أصلا -وهو الأقل-، وهي من مروياته المسنَدَةِ التي لا تمر بالداني، حيث إن الشاطبي لديه الكثير من المرويات المسنَدة، مِنها ما يمر بالداني، ومِنها ما لا يمر به، وأنتَ إذا نظرتَ في «النشر» ستجد عددًا من أسانيده مما لا يمر بالداني([9])، فكيف بغيرها مما لم يُذكَر في «النشر»([10])؟!
فالشاطبي لم يأتِ بهذه الزيادات من عند نفسه، فإن من المعلوم أن أئمة القراءة -ومنهم الشاطبي- لا يستجيزون القراءة أو الإقراء إلا بما قرءوا به، بل قد نص الشاطبي في منظومته على أنه لا مَدْخَلَ للقياس في القراءة.
وقد قبِلَ الأئمةُ زيادات القصيد في الجملة، وقرءوا وأقرءوا بها قرونًا من الزمان، ولم يمنعوا منها شيئا بحجة أنها خروج من الشاطبي عن طريقه، مع عِلْمِهِم بذلك، إلى أن حصل من المتأخرين ما حصل مما سيأتي بيانُه.
والشاطبي يجوز له الاختيار فيما يرويه من طرقه كما فعل المتقدمون من القراء؛ لأن أهلية الاختيار متحققةٌ فيه، وقد أجاز الأئمةُ زياداتِ غيره عن طرقهم اختيارًا -كما سيأتي-، مما يُعطي الشاطبيَّ الإذنَ فيما فعل، فتطَّرِدُ القاعدةُ له. وعليه؛ فمن يمنع أيَّ زيادة من زيادات القصيد يلزمه أن يَمْنَعَ كلَّ زيادات القصيد ولا يقتصرَ على مَنْعِ بعضِها دون بعض، ويلزمه كذلك أن يَمنَع أيَّ زيادةٍ لأحدٍ من القراء عن طرقه([11])؛ حتى يتبعَ قاعدةً واحدةً ولا يتناقضَ. وكِلا الأمرين يصعب التزامه، بل يمتنع.
نأتي الآن إلى الكلام على تحريرات «الشاطبية»..
لو نظرنا إلى شروح «الشاطبية» التي كتبها تلاميذُ الشاطبي أو تلاميذُهم أو مَن بعدَهم إلى وقت ابن الجزري؛ لوجدنا أن مؤلفيها كانوا يتعاملون مع «الشاطبية» على ما هي عليه، ويكتفون بشرح وتوضيح القراءات الواردة فيها، ولا نجد في هذه الشروح من الاستدراكات -في الغالب- إلا استدراكات لغوية من بعض القراء والمفسرين، وكذلك لا نجد فيها -في الغالب- تعرُّضا لِذِكْرِ الطرق والخروج عنها؛ مراعاة لصحة الاختيار في القراءات، وإشارةً منهم إلى أن الشاطبي لم يفعل شيئا يوجب الاختلاف على فِعْلِه هذا من حيث القراءة بما زاده أو المنع من ذلك، وتجد في عدد من هذه الشروحِ التصريحَ بأن الوجه الفلاني هو من زيادات القصيد، وتجد في مواضع أخر التصريح بأن الوجه الفلاني ذكره الداني في «التيسير» وتركه الشاطبي، ومع ذلك لا نجد من هؤلاء الشراح رَدًّا للقراءات الواردة في «الشاطبية» بمثل هذا المنهج الموجود الآن، وكذلك لا نجد فيها العبارةَ التي يرددها المتأخرون كثيرا؛ والتي تقول: (هذا الوجه خروج عن طريقه؛ فلا يقرأ به)، وأيضا لا نجد من يُلزم الشاطبي بأوجُهٍ من «التيسير» تَرَكَها اختيارا منه. مع أن أولئك الشراح كانوا علماء بارعين، ويعرفون ما يَقْرَءُون به.
ثم لما جاء ابنُ الجزري مضى على منهجِ مَنْ قَبْلَه من المحققين في بيان ما زاده الشاطبي على «التيسير»، واختَلَفَ عنهم في عبارته فقط عند الإشارة إلى تلك الزيادة -وإن كان المضمون واحدا-، فالمحققون الذين سبقوا ابن الجزري أشاروا إلى الزيادات من خلال نصوص الداني في كتبه الأخرى غير «التيسير»؛ بأنه قرأ بهذا الوجه على شيخه الفلاني من الطريق الفلاني فحصَل الخُلْفُ بذلك، وأما ابن الجزري فكانت عبارته تارةً مشتملة على عبارة: الخروج عن الطريق؛ في دلالةٍ على أن الوجهَ ليس طريقَ الداني في «التيسير» وإنما من طريقِ غيرِه، وتارةً يشير إلى أن الزيادة الفلانية من كتب الداني -كالمحققين قبله-، وتارةً يجمع بين الأمرين، فهذه ثلاث أساليب لابن الجزري عند التعليق على مسائل «الشاطبية» و«التيسير». وقد تَمَيّزَ ابنُ الجزري بكثرة التنبيه على ذلك، والظاهر مِن مذهبِه أن هذا إنما كان للعلم بما في طرقهم وللتنبيه على أن هذه اختيارات خرجوا بها عن طرقهم، فلا نجده يقول في موضعٍ ما في «النشر»: (هذا خروج من فلان عن طريقه فلا يقرأ به).
والدليل على ذلك: أنه راعى الاختيار في القراءات([12])، بل كان يقدم الاختيار على مراعاة الطريق([13])، بل كان هو نفسه يختار([14])، ولم يمنع ابنُ الجزري الخروجَ عن طرق المصنفين التي ذكروها في مقدمات كتبهم إلا لأسباب أُخَر، كما لو كان يرى أن الحرف الفلاني لا يثبتُ عن القارئ أصلا([15]).
وقد كانت تعليقات ابن الجزري على «التيسير» و«الشاطبية» عُمدةً لمن جاء بعده؛ لما تميزت به -إضافة إلى ما سبق- من التحرير والتحقيق، ولكن وقعت شُبْهَةٌ لدى كثير من العلماء في أواخر القرن العاشر وبدايات القرن الحادي عشر سببُها استعمالُ ابن الجزري لِعبارة: (الخروج عن الطريق) عند الكلام على زيادات الشاطبي، وهي: هل مراد ابن الجزري بهذه العبارة منع القراءة بهذه الزوائد، أم أنه أراد بها مجرد التنبيه على أنها زيادات على «التيسير» كما فعل المحققون قبله؟
ومما زاد الأمرَ اشتباها تصريحُ ابن الجزري في بعض المواطن بعدم القراءة من «التيسير» والشاطبية» في بعض المسائل([16]).
وكانت هذه الشبهةُ سببَ ظهور كتب التحريرات، والأساسَ الذي بُنِيَ عليه الخلافُ بين المتأخرين في تحريرات «الشاطبية»؛ فمنهم مَن فَهِم أن كلام ابن الجزري مجرد تنبيه، وهذا هو الصحيح -كما قررنا آنفا-، ومنهم مَن فَهِم أنه مَنْعٌ، وَقَرَنوا بين تصريح ابن الجزري بالمنع من القراءة في المواضع المشار إليها وبين عبارة (الخروج عن الطريق)؛ فجعلوا بعد ذلكَ كلَّ تعليقٍ لابن الجزري على أي رواية بلفظ الخروج عن الطريق أنه يعني المنع، فأخذوا يتتبعون ألفاظ ابن الجزري في تلك المسائل، وأفردوا لها كتبًا خاصة، ونَظَموا فيها، وهذا الفهم لم يكن معروفا قَبْلَهُم، وإنما كان منشؤه في بدايات القرن الحادي عشر، وحصل بسببه اضطرابٌ كثيرٌ في الأخذ والمنع من زيادات «الشاطبية»، مع عدم مراعاة اختيار الشاطبي. في البداية كانوا يمنعون أحرفا قليلة، ثم تطور الأمر إلى أن مُنِعَت مئاتُ الأوجه التي كانت مقبولةً ومأخوذًا بها عند المتقدمين([17]). ومع ذلك لم يلتزم أولئك القراء بهذا المنهج، ولم يسيروا على قاعدة واحدة، بل حصل عندهم تناقض واضطراب في مناهجهم ومذاهبهم، فمثلا: في تحريراتهم على «الشاطبية» تارة يمنعون أوجُهًا بحجة أنها خروج من الشاطبي عن طريقه([18])، وتارة يقبلون أوجهًا خرج فيها الشاطبي عن طريقه ويقولون: (هذا من زيادات القصيد، ويُقرأ به)([19])، بل إنهم أحيانا يلزمونه بأحرف ليست من طريقه أصلا، وبعضُها قد نبَّه على أنه تَرَكَها([20])، وهذا تناقض واضح!
وابن الجزري لم يُرِدْ قطعًا هذا الفهمَ الذي خرجوا به، وهذه المناهجَ التي بُنِيَتْ على هذا الفهم، وقد كانت السمة البارزة في تحريرات هؤلاء المحررين أخْذُ الآخِر عن الأول دون النظَر والتتبع والاستقراء لمنهج ابن الجزري في التعليق على زيادات القصيد، وقد أثبتنا آنفا بما لا مرية فيه أن ابن الجزري لم يُرِدْ هذا الذي فهموه، وأن تصريحَه بعدم الأخذ ببعض تلك الزيادات كان مخصوصا ببعض الروايات من ذوات الأسباب فحسب. فجاء هؤلاء فعمموا ذلك على جميع الزيادات، ومنهم من أخذ بعضًا وترك بعضًا، في اضطرابٍ واضحٍ، واختلافٍ بينهم كثيرٍ، وعلى أساس غير سليم، وعلى غيرِ ضابطٍ ولا قاعدةٍ جامعةٍ، فكُلُّ فريقٍ منهم صَدَرَ عَمَّا فَهِمَه.
وإن من أسباب وقوعهم فيما سبق: عدم التأمل في مسـألة الاختيار عند القراء([21])، وعدم مراعاتها. فالقارئ قد يقرأ على عدة مشايخ، ثم يؤلِّف مؤلفًا ويسنده من طريق معينة، فيدع أشياء من طريقِ كتابِه اختيارا فلا يضمنها إياه، ويضيف إلى الكتاب أشياء من مروياته الأخرى التي يرويها من غير الطريق الذي أَسْنَدَه منها. وهذا الأمر كان مقررا عند السلف بشروطه المعروفة([22])، وإليك بعض الأمثلة التي تدل على ذلك:
1- خلفٌ البزار مع أنه يسند اختيارَه من طريق حمزة إلا أنه خالفه في أشياء اختارها من مروياته الأخرى، وترك أكثرَ الأحرف التي انتُقدت على حمزة([23])، ولم يخرج عن قراءة أهل الكوفة فيما عدا السكت بين السورتين من رواية إسحاق عنه.
2- أبو عمرو قرأ على ابن كثير، وهو يخالفه في أكثر من ثلاثة آلاف حرف أخذها من قراءته على غير ابن كثير.
3- الكسائي اعتماده في الأصل على قراءة حمزة، وقرأ على غيره، ونظر في وجوه القراءات، واختار من قراءة حمزة وقراءة غيره قراءة متوسطة، وخالف حمزةَ في نحو ثلاث مئة حرف اختارها من قراءته على شيوخه الآخرين.
4- كان نافع يقول: «قرأتُ على سبعين من التابعين…، فنظرتُ إلى ما اجتمع عليه اثنان منهم فأخذتُه، وما شذ فيه واحدٌ تركتُه، حتى ألّفتُ هذه القراءة في هذه الحروف». فهذا نص صريح منه على أنه اختار.
5- ورش روايته عن نافع بإسكان الياء في {محياي}، وزاد لنفسه فتحَ الياء اختيارا منه. وروايته عن نافع في {أراكهم} بالفتح، وزاد لنفسه التقليل اختيارا منه.
6- حفص بن سليمان روايته عن عاصم بفتح الضاد في {ضعف} و{ضعفا} بسورة الروم، ووزاد لنفسه الضم اختيارا.
7- ابن مجاهد زاد لنفسه وجهَ الفتح في {الناس} لِدُوريِّ أبي عمرو اختيارا منه، مع أنه لم يقرأ من طريق اليزيدي إلا بالإمالة.
وكل هذه الاختيارات وأمثالها قَبِلَهَا المسلمون، ولم يطعن أحد فيما اختاروه بحجة أنها خروج عن الطرق، ولم يلزمهم أحد بالأخذ بما تركوه، وهذا من أوضح الأدلة، فمن رد هذا يلزمه رد عمل المسلمين طيلة هذه القرون.
إذا تقرر ذلك؛ فلماذا نقبل اختيارات هؤلاء ونرفض اختيار الشاطبي أو الداني أو ابن الجزري أو غيرهما من أئمة القراءة؟
وإنّ ما وصل إليه حالُ كثير من المحررين المتأخرين من الاضطراب والتوسع والخطإ – جعل كثيرا من القراء يسلكون عدة مسالك حيال ذلك، فمن ذلك:
1- التغافل، وذلك بترك كل واحد يقرأ بالتحريرات التي يريدها، المهم ألا يقرأ إلا يتحريرات.
وهذا المسلك هو ما يطبَّق عمليا في أكثر الأحيان، حيث لا يَعترض أحدٌ على من يقرأُ بتحريراتٍ لم يقرأ هو بها. ولكن هذا الحل إنما يصلح مع المقلدين الذين يلتزمون بما قرءوا به ولا يطلبون دليلا عليه، ولا يرجحون بين تحريراتهم وتحريراتِ غيرِهم. ولا يصلح للقراء المجتهدين الذين يبحثون عن الدليل، وكذلك الذين قرءوا بتحريرات مختلفة ويحتاجون أن يرجحوا بينها، فهم لا يرضون إلا بالبحث عن حل لهذا الخلاف. أيضا هذا الحل لا تقبله المعاهد والكليات العلمية، فإن البحث العلمي هو مرتكزها، ولا ينبغي أن يقبلوا أقوالًا لا دليل عليها، لأن المفترض في هذه المراكز أن تكون مراكزَ عِلْمٍ لا مراكزَ تقليدٍ.
2- الاطِّراح، أي اطراح كل التحريرات رأسًا، وإلغاؤها جملة وتفصيلا، والاقتصار على القراءة بظواهر «الشاطبية» و«الدرة» و«الطيبة» المعتمدة.
وهذا الحل خرج به عبد الفتاح القاضي ونادى به هو وبعض علماء القراءات بالأزهر؛ بسبب ما رأوا من كثرة التحريرات، وتعددها، واختلافها، والاضطرابِ الواقع في كثير منها. وقد تغلَّب هذا الرأي على غيره فاعتُمَد في معاهد القراءات بالأزهر، وعليه أغلب معاهد وكليات تعليم القراءات في العالم الإسلامي.
ولكن هذا الحل يؤخذ عليه أنه لا يناسب أهل العلم والاجتهاد والتحقيق الذين لا يقبلون أن يأخذوا بما منعه الشاطبي والداني وابن الجزري ثم ينسبوا ذلك إليهم. فهذا الحل فيه خطأ علمي؛ لأنه يترتب عليه القراءة بأوجه ثبت عنهم منعُها بيقين، فكيف يُقرأ من طرقهم بغير اختياراتهم؟!
أيضا لم يلق هذا الحل قبولا عند الأكثر، فما زالوا يقرئون بالتحريرات، وبعضهم يُلزِم بها طلابَه، وأيضا بدأت بعض الكليات القرآنية بالعودة إلى الأخذ بالتحريرات.
3- الترجيح بين التحريرات المختلفة.وهذا الحل يقرره أتباع مدرسة الأزميري، ويرون أنها أدق وأفضل التحريرات. هكذا يقولون.
ولكن هذا المسلك لم يكن حلا صوابا أيضا؛ لأنه يؤدي في النهاية إلى منع أوجه كثيرة جدا سيتضح في زماننا وبعد زماننا أن الصواب الأخذ بها.
4- ضبط الرواية ونسبة كل رواية وكل تحرير وكل اختيار لصاحبه، وأن تراعى الأصول التي درج عليها القراء.
فما في «الشاطبية» -مثلا- هو الذي يلزم الشاطبي، فإذا استدرك عليها عالم فإننا نبين أن ذلك استدراك له، ولا نعزوه للشاطبي أو نقول: هذه تحريرات «الشاطبية».
فالحل هو القراءة بظاهر الكتب حتى يحصل اليقين بترك هذا الظاهر. ولا نقيد ما في ظاهر الكتب إلا باليقين، كنص المؤلف على ذلك صراحةً في موطن آخر، أو حكاية طلابه إياه عنه([24])، أو أن يمنع عالم وجها معينا وأسناده يمر به([25])، ونحو ذلك. وأما الظنون فلا تقدح في الأخذ بظاهر كلام المؤلف.
وأُرشدُ القارئَ الكريمَ إلى ما كتبه المقرئ إيهاب فكري حيدر حول موضوع التحريرات عموما، وتحريرات «الشاطبية» خصوصا؛ مثل كتاب: «إنصاف الإمام الشاطبي»، و«تأصيل التحرير»، بالإضافة إلى ما تضمنه كتابه: «تقريب الشاطبية»، وكذلك ما كتبه الدكتور سامي بن محمد ابن عبد الشكور في بحثه الموسوم بـ«ما زاده الإمام الشاطبي في حرز الأماني على التيسير للإمام الداني بين القراءة والمنع». وقد استفدت أكثر هذا الباب من هذه المصادر.
كتبه
علي المالكي
__________________________________
([1]) قد أطلتُ وتوسعتُ قليلا في هذا الباب لحاجة طالب القراءات الماسّةِ إلى معرفته ومعرفة ما ينبغي عليه فيه، ولكثرة الخلاف والكلام فيه، ولِـمَا للإخلال فيه مِن نتائج وأبعاد سلبية.
([2]) جمعها خالد أبو الجود في مقدمة رسالته للماجستير والتي حقق فيها كتاب: «الروض النضير» للمتولي، فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إليها هناك.
([3]) التلفيق في اصطلاح القراء: التنقل بين القراءات أثناء التلاوة مِن غيرِ إعادةٍ لأوجُهِ الخلافِ، ودون الالتزام بروايةٍ معيَّنةٍ؛ كأن يقرأ: {وهو} في موضعٍ بِضَمِّ الهاءِ وفي موضعٍ آخرَ بإسكانِها.
وذكر بعض العلماء أن التلفيق يشمل أن تنسب إلى القارئ ما ليس من طريقه، ويشمل كذلك القراءةَ بحرف لم تقرأ به.
ويطلق على التلفيق أيضا: (الخلط)، و: (التركيب).
وقد اختُلف في حكمه على أقوال، ذَكَرَها ابنُ الجزري في «النشر» فقال: «…ولذلك مَنَعَ بعضُ الأئمةِ تركيبَ القراءات بعضِها ببعض، وخطَّأَ القارئَ بها في السنة والفرض. قال الإمام أبو الحسن علي بن محمد السخاوي في كتابه: «جمال القراء»: «وخَلْطُ هذه القراءات بعضها ببعض خطأٌ». وقال الحبر العلامة أبو زكريا النووي في كتابه: «التبيان»: «وإذا ابتدأ القارئ بقراءةِ شخصٍ مِن السبعة فينبغي ألّا يَزال على تلك القراءة ما دام للكلامِ ارتباطٌ، فإذا انقضى ارتباطُه فله أن يقرأ بقراءةِ آخَرَ من السبعة. والأَوْلى دوامُه على تلك القراءة في ذلك المجلس». قلت: وهذا معنى ما ذكره أبو عمرو بن الصلاح في «فتاويه». وقال الأستاذ أبو إسحاق الجَعْبَري: «والتركيب ممتنع في كلمة وفي كلمتين إن تعلق أحدهما بالآخر، وإلا كُرِه».
قلت: وأجازها أكثرُ الأئمة مطلقًا، وجَعَلَ خطأَ مانِعي ذلك محقَّقًا.
والصواب عندنا في ذلك التفصيلُ، والعدولُ بالتوسط إلى سواء السبيل. فنقول: إن كانت إحدى القراءتين مترتبة على الأخرى فالمنعُ من ذلك منْعُ تحريم، كمن يقرأ: {فتلقى آدم من ربه كلمات} بالرفع فيهما أو بالنصب؛ آخِذًا رفْعَ {آدم} من قراءةِ غيرِ ابن كثير، وَرَفْعَ {كلمات} من قراءة ابن كثير. ونحو: {وكفلها زكريا} بالتشديد مع الرفع أو عكس ذلك. ونحو: {أخذ ميثاقكم} وشِبْهِه مما يركَّب بما لا تجيزه العربية ولا يصح في اللغة.
وأما ما لم يكن كذلك فإنا نفرق فيه بين مقام الرواية وغيرِها؛ فإن قرأ بذلك على سبيل الرواية فإنه لا يجوز أيضًا؛ من حيثُ إنه كَذِبٌ في الرواية، وتـخليطٌ على أهل الدراية. وإن لم يكن على سبيل النقل بل على سبيل القراءة والتلاوة فإنه جائز صحيح ومقبول، لا مَنْع منه ولا حَظْر، وإن كنا نَعِيُبه على أئمة القراءات العارفين باختلاف الروايات؛ مِن وجْهِ تَسَاوِي العلماء بالعوام، لا مِن وجْهِ أن ذلك مكروه أو حرام، إذ كلٌّ مِن عند الله، نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين تـخفيفا عن الأمة، وتهوينا على أهل هذه الملة، فلو أوجبنا عليهم قراءةَ كل روايةٍ على حِدَةٍ لَشَقَّ عليهم تمييزُ القراءة الواحدة، وانعكس المقصود من التخفيف، وعاد بالسهولة إلى التكليف. وقد روينا في «المعجم الكبير» للطبراني بسند صحيح عن إبراهيم النخعي قال: قال عبد الله بن مسعود: «ليس الخطأ أن يقرأ بعضه في بعض، ولكن الخطأ أن يُلحِقوا به ما ليس منه»…» اهـ.
([4]) مثلما فعل كثير من المتأخرين مِن إلزام الشاطبي بالأخذ بأوجهٍ من «التيسير» كان قد تَرَكَ الأخذَ بها اختيارًا وقصدًا، فألزموه هم بها بحجة أنها موجودة في «التيسير» الذي هو أصل «الشاطبية»!
([5]) فإن قيل: فما حكم القراءة بهذه التحريرات التي يزيدها هؤلاء المحررون من باب الاختيار والظن؟ فالجواب: يقول الشيخ إيهاب فكري: إذا كانت تحريرات معتبرة فيمكن القراءة بها على أنها اختيار من أصحابها، فيُقرأ بها مع نسبتها إلى أصحابها لا إلى صاحب المتن.
([6]) مثال ذلك: أن نجد في «طيبة النشر» عبارةً ظاهرُها جوازُ وجهٍ ما، ثم عندما نبحث في «النشر» نجد أن ابن الجزري يمنع هذا الوجه؛ فنقيُّدُ ظاهرَ كلامِه في «الطيبة» بكلامه الذي في «النشر»؛ فنَمْنَعُ ذلك الوجهَ من طريقه، وننسب هذا المنعَ إليه.
([7]) وبناء على هذا قال بعض العلماء: إنَّ تحريرات الأزميري والمتولي ومن سار على نهجهما إنما هي في الحقيقة مستدركات واختيارات لهم.
([8]) وقد اعتنى ببيان هذه الزيادات عدد من العلماء، سواء من الشُّرَّاح -كالسخاوي، وأبي شامة، والموصلي، والجعبري-، أو مِن غيرِهم -كابن الجزري-، وهناك من من أفردها بالنصنيف، كأبي زيد عبد الرحمن بن القاضي في كتابه: «بيان الخلاف والتشهير وما وقع في الحرز من الزيادات على التيسير»، واختصره في منظومةٍ، وإيهاب فكري في كتابه: «إنصاف الإمام الشاطبي»، وسامي بن محمد ابن عبد الشكور في بحثه: «ما زاده الإمام الشاطبي في حرز الأماني على التيسير للإمام الداني بين القراءة والمنع».
([9]) وإليك ما في «النشر» مِن أسانيده إلى قالون كمثالٍ على تَعَدُّدِها وعدمِ انحصارِها في الداني:
قرأ الشاطبيُّ برواية قالون على أبي الحسن علي ابن هُذَيْل، وهو على أبي داود سليمان بن نَجَاح، وهو على الداني، وهو على أبي الفتح فارس بن أحمد، وهو على عبد الباقي بن الحسن، وهو على إبراهيم بن عمر، وهو على ابن بُويَان، وهو على أبي بكر أحمد بن محمد بن الأشعث (المعروف بأبي حسان)، وهو على أبي نَشِيط، وهو على قالون.
(ح) وقرأ الشاطبي على أبي عبد الله محمد بن علي بن أبي العاص النَّفْزِي، وهو على أبي عبد الله محمد بن الحسن بن محمد بن غلامِ الفَرَس، وهو على سليمان بن نجاح وأبي الحسن علي بن عبد الرحمن بن الدّوش وأبي الحسين يحيى بن إبراهيم بن البيّاز، ثلاثتُهم على الداني.
(ح) وقرأ محمد بنُ غلامِ الفَرَس على أبي الحسن عبد العزيز بن عبد الملك بن شفيع، وهو على عبد الله بن سهل، وهو على أبي سعيد خلف بن غُصْن، وهو على أبي الطيب عبد المنعم ابن عبيد الله بن غَلْبون، وهو على صالح بن إدريس، وهو على القزَّاز، وهو على أبي حسان.
فأنت ترى أن الطريقَ الأخيرَ لم يَمُرَّ بالداني.
([10]) ومن هنا تعلم خطأَ مَن ظنوا أن أسانيدَ الشاطبي في «الشاطبية» تنحصرُ في «التيسير» وبناءً على هذا يُلْزِمُون الشاطبيَّ ألا يَخْرُجَ عمَّا في طرق «التيسير»، ثم يلزمون الداني ألا يخرج عن أسانيده التي ذكرها في أول «التيسير»، بحجة ان هذا هو التحرير! ولم ينتبه هؤلاء إلى أن أسانيد الداني في «التيسير» لا تنحصر هي كذلك فيما ذكره في أوَّلِه. وهذا قد نَصَّ عليه هو نفسُه؛ فقال بعد أن ساق الأسانيد: «هذه بعض الأسانيد التي أدت إلينا الروايات روايةً وتلاوةً». وهذا يفيد أنه لم يذكر إلا بعضَ أسانيده لِما أورده فيه، لا كلَّها، فكان على هؤلاء أن يقولوا فيما يَخرج فيه عن طرقه التي ذكرها: إنه خروج منه عن طريقه الذي ذَكر إسنادَه. لا على ما لم يَذكر إسنادَه؛ إذْ كلامُه واضحٌ في أن له طرقًا أخرى لِما أورده في كتابه لَم يذكرها.
([11]) و قد قال ابنُ الجزري في «النشر» -بعد أن حكى اختيارا للداني-: «وإذا كان يأخذ بالإثبات فهل يؤخذ من طريقه بغير ما كان يأخذ؟».
([12]) وإليك بعض الأمثلة على ذلك فيما يتعلق بالشاطبي:
1- لم يَرُدَّ ابنُ الجزري اختيارَ الشاطبيِّ عدمَ النقل وقفًا في نحو: {من أجر} لحمزة، مع أن هذا الوقف لم يجوزه الداني ولا شيخه أبو الفتح.
2- قال في حرف {يعذب من} بسورة البقرة: «وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الإِدْغَامُ لِابْنِ كَثِيرٍ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الجُمْهُورُ أَطْلَقَ الخِلَافَ فِي «التَّيْسِيرِ» لَهُ؛ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَمَا عَلَيْهِ الأَكْثَرُونَ، وَهُوَ مِمَّا خَرَجَ فِيهِ عَنْ طُرُقِهِ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الشَّاطِبِيُّ، وَالوَجْهَانِ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ صَحِيحَانِ» اهـ.
فأنت ترى أنه مشّى الإدغام من طريقيهما ولم يقل: إنه خروج عن الطريق فلا يُقرأ به.
3-في{محياي} بسورة الأنعام قال: «والوجهان صحيحان عن وَرْشٍ مِنْ طَرِيقِ الأَزْرَقِ، إِلَّا أَنَّ رِوَايَتَهُ عَنْ نَافِعٍ بِالإِسْكَانِ، وَاخْتِيَارَهُ لِنَفْسِهِ الفَتْحُ -كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ-». فأثبتَ الخلاف عن ورش وهو يجزم في الموضع نفسه أن الفتح اختيار له خرج به عن طريقه.
بل إنه في {هئت لك} ذكر قال: «…وَلِذَلِكَ جَمَعَ الشَّاطِبِيُّ بَيْنَ هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ [أي فتح وضم التاء مع الهمز] عَنْ هِشَامٍ فِي قَصِيدَتِهِ فَخَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ كِتَابِهِ [وهو الفتح] لِتَحَرِّي الصَّوَابِ». فأنت ترى أن ابن الجزري لم يمنع هنا أيضا الخروج عن الطريق اختيارا.
([13]) مثال ذلك: ذَكَرَ في «النشر» أن التحقيق أن يُقرأ للسوسي من «التيسير» بالسكت بين السورتين، مع أن طريقه الوصل. فقدم الاختيار على مراعاة الطريق. وكذلك فعل في رواية ابن ذكوان؛ فذكر أن التحقيق أن يُقرأ له من «التيسير» بالسكت بين السورتين، مع أن طريقه البسملة.
([14]) مثال ذلك: أنه في إسكان {يرضه} لهشام بعدما ذكر الخلاف فيه: «وَقَدْ تَتَبَّعْتُ رِوَايَةَ الإِسْكَانِ عَنْ هِشَامٍ فَلَمْ أَجِدْهَا فِي غَيْرِ مَا ذَكَرْتُ سِوَى…» فذكر عدة طرق ثم قال: «وَلَيْسَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ طُرُقِنَا، وَفِي ثُبُوتِهِ عَنِ الدَّاجُونِيِّ عِنْدِي نَظَرٌ، وَلَوْلَا شُهْرَتُهُ عَنْ هِشَامٍ وَصِحَّتُهُ فِي نَفْسِ الأَمْرِ لَمْ نَذْكُرْهُ». فأنت ترى أنه مع أن هذا الحرف ليس من طرقه اختاره؛ فقال في الطيبة: «…والخلفُ لا»، يعني أن السكت عن هشامٍ بخلاف. وأقرأَ بهذا الحرف، وقرئ به من وقته إلى وقتنا هذا.
([15]) كما منع إدغام {وجبت جنوبها} لابن ذكوان من طريق «الشاطبية» لأنه يرى أن هذا الحرف لا يثبت عن ابن ذكوان أصلا.
([16]) يقول الدكتور سامي عبد الشكور في «ما زاده الشاطبي على التيسير بين القراءة والمنع»: «تَبَيَّنَ من خلال تَتَبُّع ابن الجزري أن المنع من القراءة لم يكن عاما في كل مسائل الخلاف، بل هو محصور في نوع خاص من تلك المسائل، فمن المعلوم أنه لما كانت طرق «الشاطبية» و«التيسير» ضمن أسانيد الإمام ابن الجزري؛ كان لزاما عليه تفنيد تلك الراويات الواردة من تلك الطرق، إذ إنه صرح في كتاب: «النشر» أنه لا يأخذ إلا بما صح من طرق كتابه، فكان من جملة ما علق عليه على تلك الطرق قوله: «ولا ينبغي أن يُقرأ بهذا الوجه من «الشاطبية» و«التيسير»»، فتتبعت تصريحه بعدم القراءة في كتابه: «النشر» فوجدت أن ذلك الحكم وقع على نوع خاص من تلك الراويات ولم يكن في غيرها، ألا وهو ما انفرد به الإمام الداني في بعض روايات «التيسير» وتبعه على ذلك الإمام الشاطبي.
ثم تتبعت ما انفرد به الإمام الداني والإمام الشاطبي، فوجدت أن حكم ابن الجزري بالمنع وقع في نوع خاص من المنفرد أيضا، ألا وهو ما كان من ذوات الأسباب عنده أدى لعدم الأخذ به عند ابن الجزري من طريق «التيسير» و«الشاطبية»، كأن تكون الرواية المنفردة جاءت في «التيسير» حكايةً لمذهب الغير، أو تتميما لفائدة، أو أن تكون مما توهمه الشاطبي على حد زعْم ابن الجزري، أو أن الرواة على خلاف الرواية المذكورة. وقد بيّنتُ -بحمد الله- تلك الأسباب وتلك الانفرادات في مواطنها من البحث الثاني… .
والسبب الذي جعل ابن الجزري لا يأخذ بتلك الروايات المفردة من «التيسير» و«الشاطبية» أنه لم يقرأ بهذه الروايات من تلك الطرق؛ لما اشترطه في كتابه من عدم الأخذ إلا بما صح، أما ما كان حوله شبهة أو سبب قادح فلا، وأن قراءته بهذه الروايات إنما كانت من طرقه الأخرى في غير «التيسير» والشاطبية». وقد بينت ذلك أيضا في مواضعه.
وأما ما لم يصرح فيه ابن الجزري بالمنع فإنه يذكره على أنه انفراد فقط، دون تصريح بالمنع، وهذا لا يعني أن ابن الجزري يمنع لمجرد انفراد الشاطبي أو الداني بأحد الوجوه» اهـ.
([17]) حتى وصل الحالُ ببعضهم إلى القول بإلغاء كلِّ زيادات «الشاطبية»، والاقتصارِ منها على القراءة بما وافقت فيه «التيسيرَ» فقط! وبالغ بعضهم فقال: (لا حاجة إلى حفظ «الشاطبية»، هاهو «التيسير» موجود بين أيدينا، يكفينا أن نرجع إليه ونقرأ منه)! يالله العجب! أفهؤلاء أعلمُ مِن كُلِّ العلماء الذين تَلَقَّوْا هذه القصيدة بالقبول وقرءوا بها وأقرءوا طيلة هذه القرون؟!
([18]) وأمثلة هذا كثيرة جدا، منها: منع وجه الإسكان في ميم الجمع لقالون، ومنع وجه الإدغام لابن كثير في {ويعذب من يشاء} بسورة البقرة، ومنع قراءة {يبصط} و{بصطة} بالسين لخلاد.
([19]) من ذلك: فتح ذوات الياء لورش، وقصر البدل له أيضا، والتوسط لقالون، والقصر للدروي.
والأكثر من ذلك أنهم لم يمنعوا اختيارَ الشاطبي وجهَ النقلِ وقفًا لحمزة في نحو: {مِن أجر} مع أن الداني وشيخه أبا الفتح يمنعانه! وكذلك لم يمنعوا مد البدل لورش مع أن الداني له مؤلفات في منع مد البدل! كما أنهم أخذوا في حرفي {بالسوق} و{على سوقه} بوجه الواو بعد الهمز المضموم، مع أنه ليس من طرق الشاطبي ولا الداني ولا «طيبة النشر»!
فأنت ترى أنهم يختارون هذا بينما لم يمنعوا أشياء أخرى دون ذلك!
([20]) كما فعلوا في كلمة: {أئمة}؛ حيث زادوا وجه الإبدال على طريق «الشاطبية» بحجة أنه صح من طريق «الطيبة» فيُقرأُ به! مع أن الشاطبي نبه على أنه تركه.
([21]) للتوسع في هذا الموضوع يُرجع إلى كتاب: «الاختيار عند القراء .. مفهومُه، مراحلُه، وأثرُه في القراءات» لأمين بن إدريس بن عبد الرحمن فلاته.
([22]) ومنها:
أن يقع ممن توفرت فيه أهلية الاختيار.
أن يكون الوجه المختار مما اجتمعت فيه شروط القراءة الصحيحة.
أن يكون القارئ قد قرأ به أو سمعه في الجملة.
أن لا يؤدي إلى الوقوعِ في محذور نحوي أو لغوي.
أن ينسبه المختارُ لنفسه، لا إلى شيوخه، ولا إلى صاحب الكتاب الذي يقرأ من طريقه، وإلا عُد ذلك تلفيقا.
([23]) ومن باب المناسبة والفائدة أورد هذه النقول ردا على من يطعن في قراءة حمزة:
قال الإمام الذهبي في «ميزان الاعتدال»: «قد انعقد الإجماع بأخرة على تلقِّي قراءةِ حمزةَ بالقبول،, والإنكارِ على من تكلم فيها، …[و] يكفى حمزةَ شهادةُ مِثْلِ الإمام سفيان الثوري له؛ فإنه قال: ما قرأ حمزةُ حرفًا إلا بأثرٍ» اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى»: «وَالقِرَاءَةُ المَعْرُوفَةُ عَنْ السَّلَفِ المُوَافِقَةُ لِلْمُصْحَفِ تَجُوزُ القِرَاءَةُ بِهَا بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الأَئِمَّةِ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الأَئِمَّةِ بَيْنَ قِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبَ وَخَلْفٍ، وَبَيْنَ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالكِسَائِيِّ وَأَبِي عَمْرٍو وَنُعَيْم. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا: إنَّ القِرَاءَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالقُرَّاءِ السَّبْعَةِ [وأن] مَا خَرَجَ عَنْ هَذِهِ السَّبْعَةِ فَهُوَ بَاطِلٌ…» اهـ.
وقد كتب علماء القراءة في هذه المسألة عدة كتابات، استقلالا وضمنا، فليُرجع إليها للوقوف على تفصيل الكلام.
([24]) كما حكى السخاوي عن الشاطبي أنه كان لا يختار في المد مرتَبَتَيْ فويق القصر وفويق التوسط. فلهذا لا يُقرأ بهما من طريقه؛ لأنه لم يخترهما، وهل يؤخذ من طريقه بغير اختياره؟!
ومثاله أيضا: قول الشاطبي: «وخلفهمُ في ناس في الجر حصلا»، ظاهر كلامه هذا أن الإمالة في {الناس} المجرورة لأبي عمرو من روايتيه. ولكن السخاوي قال: «وهذا الخلاف منسوب في القصيدة إلى أبي عمرو دون الدوري والسوسي؛ لما ذكرت، وكان شيخُنا يقرأ بالإمالة له من طريق الدوري وبالفتح من طريق السوسي، وهو مسطور في كتب الأئمة كذلك» اهـ.
([25]) مثلا: بعض زيادات القصيد لم يصححها ابن الجزري، ولم يقرئ بها؛ فحيث إننا نقرأ بمضمن «الشاطبية» من طريق ابن الجزري فلا نقرأ بها؛ لعدم اتصال سندها حينئذ؛ لأن كل أسانيد القراءات في زماننا تمر بابن الجزري، ولا يستثنى من ذلك إلا قراءة نافع؛ فللمغاربة فيها أسانيد لا تمر به.
وللوقوف على الزيادات التي لم يصححها ابن الجزري ارجع -على سبيل المثال- إلى «إنصاف الإمام الشاطبي»، فقد عقد لها فصلا خاصا.
Comments